الجمعة، 3 أغسطس 2018

مجلة الهيكل .. بقلم د. سؤدد يوسف عبد الرضا الحميري .. قراءة نقدية لديوان " قصائد البحر" للشاعــر د. صـــاحب خلــيل إبــراهيم


لا يتوفر نص بديل تلقائي.

قراءة في سطور 

قراءة نقدية لديوان" قصائد البحر" للشاعر د. صـاحب خليل إبراهيم


شكل البحر بؤرة ودالة مركزية في الخطاب الشعري قديماً وحديثاً، فهو الملهم لكثير من الشعراء، والباعث على تشكيل بنية وجمالية النص الشعري، تمتزج فيه الذات الشاعرة بالطبيعة من خلال إسقاط ما بداخلها من مشاعر عليه ، ويحوي بين طياته أفق المفارقة الدلالية، فهو الصديق الذي يشارك الشاعر أحزانه وأفراحه تارة ، وتارة أخرى صاحب الأمواج الغاضبة، وقد ارتقت مجازات البحر ، وتطورت دلالته، حتى أضحى بنية محورية دالة في القصيدة العربية ، فنجدها عند معظم الشعراء قديماً وحديثاً، وقد وظفها كل منهم وفقا للسياق الشعري الذي صيغت فيه.
ويأتي ديوان ( قصائد البحر) للشاعر د. صاحب خليل إبراهيم سائراً على الدرب ومغايراً في احتفائه بالبحر، ومفرداته، حتى أضحى البنية المركزية التي يتمحور حولها معظم قصائد الديوان .
وديوان ( قصائد البحر) هو اسمٌ على مُسَمَّى صدَرَ للشاعر الناقد ” د.صاحب خليل إبراهيم ” – قبل سنوات – ، ويقع الديوان في ثلاث وأربعين ومائة صفحة من القطع المتوسط الصغير، بورق جيد وإخراج جميل وطباعة جيدة.
فيه تحليلٌ مُسهَبٌ عن شخصيَّةِ الشَّاعر من خلال قصائِدِه، من الموضوع الأسلوب والمستوى والمضمون والمحتوى، ويشمل البُعدَ النفسي و الإنساني والوطني والفكري في شعره ، فيستطيعُ القارئ أن يأخذ َ ويُكوِّنَ فكرة ً كاملة ًعن الشَّاعر ومستوى كتاباتِه من خلال ِ قراءةِ هذا الديوان.
لقد وظف الشاعر لديوانه اسم (قصائد البحر)، والتسمية بالقصائد تعطي الديوان البعد الشعري والشعوري والإنساني أيضا..تتيح للشاعر الانتقال عبر أغراض مختلفة يغني بها بناء فضائه الشعري، ان من يريد إطلاق تسمية القصائد على شعره، يجب ان يكون واثقاً من إمكاناته في المقاربة الدلالية ، وذلك بالقدرة على الفيض الشعري وامتلاك ناصية القافية، وقدرة تكييف المفردات، والتراكيب، والمدى الشعري.. وهي تحتاج إلى ما يمتلكه الشاعر من الموهبة الشعرية، وطاقة التدفق الشعري، والخزين المعرفي، التي تضيء مضمون البناء الشعري.
اما توظيفه للفظ البحر وارتباطه بقصائد الشاعر، ليكون بالتالي ناظماً لها ومنشداً لإلحانها، فلان البحر جزء لا يتجزأ من حياتنا، وله أزليته واتساعه وامتلاكه غالب مساحة الكرة الأرضية، وله أعماقه، وعوالمه وكائناته، وعجائبه وأساطيره، وتجربة الإنسان فوقه وعلى شواطئه.. فالبحر منشد كبير ودوي صوته عالمي، وهو حامل رسائل وحضارات، وسفن وإبداع، وممر تثاقفٍ وتتلاقٍ، وداعي محبة وائتلاف، لكنه أيضا الهائج المائج، والقاسي الصعب، لمن لا يحسن ركوب متنه.. هكذا يمتلك البحر المدى والأسرار والقصص. ولان البحر مؤلف من قطرات ، وان في كل قطرة على ما يبدو تحمل معنى فكل ما في البحر من معاني، عبرت عنه هذه القصائد .
إننا عندما نغوص في عالم ديوان (قصائد البحر) نكون قد غضنا في عالم السحر والجمال عبر ألفاظ ذات ايقاعات موسيقية مستوحاة من إيقاعات أمواجه، نتلمس فيها عمق الأفكار من عمق البحر وصفاء وصدق المشاعر النفسية للشاعر وجمال الإحساس، قصائد تأخذ الألباب وتأسر القلوب بنفس شعري متفرد، وأسلوب متميز سلس ، وصور جميلة مفعمة بالحيوية، و بالخيال الخصب، النابضة بالإحساس والفكرة ، تتناسب مع إيقاع الألفاظ، في بنية صوتية ودلالية مبدعة، لتحلق في فضاء الابداع الشعري. 
والشاعر بحر بلا نهاية خارجه هادئ وأنيق وداخله عالم عميق، وحياته أمواج بحر بين حزن وفرح، غواص متمكن من أدواته في عالم الغوص في بحور الشعر .
وشعره ماء بحر كلما شربت منه زاد عطشك، وبحره الهائج المتلاطم الأمواج استطاع ان يخرج لنا شاعراً بحاراً ، بمهارته تمكن ان يركب أمواج البحر ويخرج على سواحله الدر والمرجان ، وكما قيل البحر الهادئ لا يصنع بحاراً ماهراً ناجحاً ، ففي الأمواج و الأعاصير تظهر قدرة الرجال، استفد من عقبات حياتك، فإنها تزيد من مهارتك. وهكذا وظف الشاعر عقبات الحياة لزيادة مهارته.
وتتداعى المفردة والتعبير والجملة الشعرية تداعياً يؤدي غرضه في رسم الصورة وبعدها الدلالي، كما يحمل شعره صفاء نفسه ووضوحها، ويسطع نصه بجرأة القول، وإصابة المقصود. 
عند حديثي مع الشاعر د. صاحب خليل إبراهيم شعرت ان لديوانه(قصائد البحر) زاوية خاصة في نفسه، ورغبة في ان يُقرأ هذا الديوان عبر نوع من المقاربات النقدية الممكنة، التي تضيء فضاءه، وتقدم الديوان معرفياً، بعد ان قدمه الشاعر بتكثيف شعري جميل.
ان أهم ما يميز ديوان (قصائد البحر) اهتمامه بشأنين مهمين في غاية الأهمية، واقصد بهما الصورة الشعرية، التي أضحت مكوناً أساسياً ومحورياً في بناء القصيدة ، والانتقال من البعد ألشفاهي إلى البعد الكتابي، الذي اخذ يفرض سطوته على الشعر.
ولعل التجربة الشعرية للشاعر د. صاحب خليل إبراهيم من خلال ديوانه هذا الذي ارتضى تسميته بـ (قصائد البحر) والتي تبدو من خلال قراءة أولية للقصائد إنها مهيمنة بشكل كبير على بناء النصوص، فلا يكاد القارئ يتجاوز سطراً او سطرين حتى يفاجئه الشاعر بصورة شعرية اجتهد في جعلها قوية أخاذة، حتى ليمكننا الحديث مع هذا الديوان عن إيقاع الصورة الشعرية، الذي يبدو انه يعوض تدريجيا الإيقاع التقليدي بنوعيه الخارجي الممثل في البحر الشعري أو التفعيلة و، والإيقاع الداخلي الذي يتجسد في محسنات البديع وغيرها.
إن من يتأمل ويبحر في هذا الديوان ويغوص في أعماقه سيكتشف أغواره اذ تنساب الحروف على (السواحل) سواحل (موج الذكريات) لتعزف أجمل موال (موال البحر) في (نغمة) على (بحار ورمال) ذلك البحر في (مساءات البحر) لترتطم على (صخرة البحر) ،(قصيدة)، (ثلاث قصائد)، (قصائد)، او لنقل تلك (القصائد الجريحه) في (متاهة البحر)، انها (فيروزة البحر) و (عشتار) تنشد (نشيد البحر). فحين (يتعرى البحر) تتكشف (بحار الظنون) لتفصح عن (ارتباك البحر) ولتعزف (نشيد المياه) على (صهيل الغيم) ولتشكل لوحة (بحر ونجوم) وهي تعرب عن (عطش السحاب) ام تعرب عن (سحابة نار) على تلك الزهرة (زهرة الرماد) التي كتبت (حرائق الغياب) بـ(أصابع نار) لمدينة المهد والهوى (كوفة: هذا هواي) التي (سرقت هواي) ، أهي (فلسفة الصمت) ام (نشيد الصمت) لتكون (المرآة) ، (مرآة الحزن) ، ام هي (القنبلة) في (حقل الرعب) تكشف لنا عن (نبض ووجع) في (ليلة جارحه) و(صدأ) (الوجع الأبدي). أهو (انطفاء) أم (ثقوب) (نجمة) (مطفأة) من ذلك (الزمان) لتفصح بلسان ناطق عن (غاية مستحيلة) ام (رغبات مجففه) ام (أحلام مرقعه) لتكون (الملاذ) و(التعويذة) انها (المبتدأ والخبر) ، و(المفتاح والقفل)، و(الظل والنباح)، (ربما ربما) هي ( نزهة) و (تسلية) لـ (وريقة) او (القنديل) في (المقهى) او (صيد جديد)، فهل يا ترى هي (مباغته) فـ(في أي ملعب هي الكرة؟)
وعند تسليط الضوء إلى الموضوعـات النفسية و الاجتماعية والوجدانيَّة في الديوان . نجد ان اول قصيدة كتبها الشاعر كانت لأمه التي اغترب عنها ، وفي هذهِ القصيدةِ جسد معاني الإنسانيَّة كلها معبراً عنها بنبرة شجية ملتاعة ،وهي بعنوان (حرائق الغياب – الى امي -) يقول فيها :


× × ×

يد الغمام مسدت شعري انا الغريبْ
رشّتْ جفوني بالرَّذاذ
فاكتحلتْ بجمرة العناق
ذابلةً
غدت هي الدروبْ
وانطفأت كل الحروف في حرائق الغيابْ
ومخلب الغروب
سأوقدُ البحر قناديلَ لامي والنجومْ
لعلها
تُضيء وحشةَ الغياب

× × ×

ايُّ كلام ِ جميل ِ رائع ٍ هذا الذي يخلبُ الرُّوحَ والألباب ويهزُّ المشاعرَ ويأخذ القلوب…هذا هو الشِّعرُ الصَّادق الخارج من أعماق ِ الوجدان الذي لو ترجِمَ لجميع لغاتِ البشر يظلُّ مُحافظا على رونقِهِ وروعتِهِ الفنيَّة وسحرهِ وتألُّقهِ، خالدًا للأبد في الضمائر والنفوس.
وتغرب عن مدينة الكوفة ونظم قصيدته (كوفة: هذا هواي) وهو منفي عنها في ارض غربة ، يشعر بغربتين غربة نفسية عن أهله وأحبته ، وغربة مكانية عن مدينة مهده ، مهد الشعر والأدب والقيم الشرقية الأصيلة والطيبة والأصالة لذلك هي مخبأة في عيونه، فعبر عن شوقه وحنينه إلى أرض مهده وذكرياته وهو يذوب بنار غيابه وحيداً ، يخبأ وجعه وراء تلك الأمطار من بكاء العيون فيقول:
× × × ×

مخبأة في العيون
مخبأة في الجذور
ويخضرُّ منها الزمان

***
***

تفيأت قلبي
هواي يجيء على فسحة ٍ من 
تشظي الدماء البهيهْ
توضأتُ جرحي،
عرفت الطريق اليكِ
وهذا هواي
يرفُّ سناً،
يُفاجئ كل المحبين
يُفاجئ كل الشوارعِ،
يُكحل جفنَ المصابيحِ
يغزل فجركَ طيفاً
يناغي الطيوف
بماء الفراتِ
فماذا أسميك يا كوفة المهدِ يا كوفة الذكريات؟
أذوب بناري
وحيداً
على نغمة ٍ سكنتها الشجون
ورفّتْ
على غيمةٍ خبأتْ وجعي،
مطراً من بكاء العيونْ

***
***
خريفٌ
هو العمرُ قد ضيعتهُ المنافي
وأوراق اشجارهِ
كنستها الرياح
بكل المحطات

***
***
الى أين امضي
ومسراي منكِ اليك
وانت الندى والقصيد
وجمر اخضراري يضيء على وجنتيك
فهات لنا نبعة الروح فيئاً
وهات يديك
فأنتِ الشذا والحنين
ونجمةُ عشقٍ
ألوذ بها، وتلوذ معي
بقبر الحسين. 
ويفصح البحر عن مدى حزنه وهو بعيد جريح لا يملك الا الدموع السواكب في قصيدة (موّال البحر) التي يقول فيها:
× × × ×
منْ معطف الاحزانِ تخرجُ النجومْ
مُطفأةً
ككتلة طينيةٍ
يقذفها البحرُ على ضفافنا
لعلها تبتلُّ بالدموعِ
والغيمُ يلهو في سماواتٍ بعيدةٍ
لا تمطرُ الان سوى رملٍ وريحْ
منْ ايقظَ الموالَ في قيثارنا الجريح؟!

× × ×

ختاماً أقول إنَّ ديوانَ الشَّاعر " د.صاحب خليل إبراهيم " من أفضل وأروع الدواوين الشعريَّة ، وقصائده في هذا الديوان تضاهي وتفوقُ الكثيرَ مِمَّا كتبَهُ شُّعراء آخرين من حيث المستوى الفنِّي والأصالة والإبداع . واعدّه في طليعةِ الشُعراءِ المعاصرين. وهذا الديوان هو مجموعة أعمال شعرية أصدرها الشاعر، وأصدر بعدها مجموعاتِ شعرية ونثرية وكتب نقدية وادبية اخرى، وما زالَ لديه الكثيرُ من الإنتاج الشعري والنثري وغيره المتراكم كمًّا وكيفا والذي لم يرَ النور بعد . فأتمنَّى للصَّديق الشَّاعر المتألق الصَّادق المبدع " د.صاحب خليل ابراهيم " أن يبقى مُستمرَّا دائماً في الإنتاج والعطاءِ الإبداعي المُلتزم وأن يصدرَ له مجموعاتٌ أخرى جديدة في وقتٍ قريب إن شاءَ الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق